داعش في القارة السمراء؛ اللعب على أخطاء الهوية والحدود
بعد الهزائم الرهيبة التي عانى منها تنظيم داعش في المناطق الواقعة تحت سيطرته، خاصة في العراق وسوريا، كرسوا جزءاً من استراتيجيتهم لاستبدال مناطق جديدة للنفوذ والوجود، وفي خضم ذلك، بُذلت جهود لزيادة نشاط جبهات مثل جنوب الفلبين وشبه جزيرة سيناء، ولكن داعش لم تستطع زيادة قوتها السابقة والنسبية في هذه المناطق، وأصبحت أخباراً أكثر مما كانت عليه في الماضي وفي غضون ذلك، كانت إفريقيا السمراء هي أفضل مكان اختاره تنظيم داعش كمناطق جديدة لنفوذه ووجوده بسبب الأخطاء والتعقيدات في الهوية، وضعف الأنظمة السياسية الناتجة بشكل رئيسي عن الانقلابات.
التواجد الأقوى في “برنو” بنيجيريا
في غضون ذلك، تم بالفعل تسجيل وجود داعش في نيجيريا في منطقة “برنو” ومنطقة بحيرة تشاد، وتحديداً في غابة “سامبيسا” تحت اسم “ولاية غرب إفريقيا”.
في الواقع، أبو بكر شيكاو، زعيم جماعة “أهل السنة للدعوة والقتال” المعروفة باسم بوكو حرام، والتي كانت تنتشر في المناطق الشمالية الشرقية من نيجيريا وفي غابة سامبيسا، قد بايع أبو بكر البغدادي في 7 آذار \ مارس 2015 وفي ذروة قوة تنظيم داعش وأصبح أمير “ولاية غرب أفريقيا” لداعش، ولكن إمارته على غرب إفريقيا لم تدم طويلاً، وبعد بعض التجاذبات في 2016، تم تعيين الناطق باسم أبو بكر شيكاو، وهو أبو مصعب البرناوي، من قبل أبو بكر البغدادي أميراً لـ”ولاية غرب إفريقيا”، وكشف عن هذا الموضوع في العدد 41 من جريدة “النبأ” الأسبوعية بتاريخ 28 شوال 1437 من خلال مقابلة النبأ مع البرناوي كأمير على “ولاية غرب إفريقيا”. وبعد انشقاقه عن داعش، أحيا أبو بكر شيكاو اسم تنظيمه السابق جماعة “أهل السنة للدعوة والقتال” وظل منافساً لداعش في المنطقة، ولكن في النهاية سيطر تنظيم داعش على أبو بكر شيكاو حسب رواية تنظيم داعش في العدد 293 من صحيفة النبأ الأسبوعية في 21 ذو القعدة 1442 انتحر أبو بكر شيكاو في 7 شوال 1442 من خلال تفجير سترته الانتحارية.
وبعد موت أبو بكر شيكاو التحق العديد من أعضاء تنظيماته بداعش واستطاعت داعش تكوين أقوى فرع لها خلال هذه السنوات في منطقة برنو في نيجيريا. وفي الواقع تمكّنت “ولاية غرب أفريقيا” أن تحقق تمثيلاً وتأسيساً نسبياً، بحيث تمكن هذا الفرع من تنظيم داعش من إنشاء بعض مؤسساته ومحاكمه وتفعيلها، مثل ديوان الزكاة، وديوان الحسبة وديوان الدعوة والمساجد في المناطق التي يسيطر عليها.
المهم أن تنظيم داعش في منطقة برنو استخدم ثغرات الهوية بشكل أساسي بسبب تواجده في الحدود وتفعيل المشاكل التي تخلقها الحدود للمركز، وباستثناء منطقة برنو في شمال شرق نيجيريا، فإنها أحياناً تهاجم مناطق من تشاد، والكاميرون والنيجر وكذلك في منطقة بحيرة تشاد.
وتجدر الإشارة إلى أنه قبل إعلان خلافة أبو الحسن الهاشمي خليفة لتنظيم داعش في 10 آذار \ مارس 2022 من قبل الناطق باسم تنظيم داعش، أبو عمر المهاجر، بعد شهر تقريباً من مقتل أبو إبراهيم الهاشمي الخليفة السابق لداعش، ضمت “ولاية غرب إفريقيا” مناطق الساحل في مالي وبوركينا فاسو ومناطق أخرى حيث تم فصل (ولاية الساحل) بعد تولي أبو الحسن الهاشمي للخلافة عن “ولاية غرب إفريقيا” والتي هي ولاية بحاجة لحديث لوحدها.
“كابوديلغادو” كيب ديلغادو في موزمبيق؛ موقع جديد
لم تنته استراتيجية تنظيم داعش في البحث عن المناطق المعرضة للأنشطة الإرهابية في القارة السمراء عند “برنو” في نيجيريا، وهذه المجموعة الإرهابية تستغل مرة أخرى فجوة الهوية في المناطق الحدودية وهذه المرة بتفعيل الصراع الإسلامي المسيحي في البلدان المسيحية ذات الأقلية المسلمة حيث سعت إلى التجنيد بين الأقليات المسلمة التي تعيش في البلدان المسيحية، والتي تمتد بشكل أساسي إلى الدول الإسلامية المجاورة.
حيث أنه من النادر أن يبدأ داعش في التجنيد من الصفر، وتتمثل استراتيجية داعش في هذا الأمر في قطف ثمار الآخرين، كما رأينا في مثال نيجيريا وبوكو حرام، فإن داعش يجلب معه مجموعة كانت موجودة بالفعل وناشئة وتدريجياً ومع الإطاحة بالزعيم السابق، تعزز علاقات عناصر هذه المجموعة معها.
لهذا السبب، يمكننا أن نرى أن داعش في منطقة كابو ديلغادو (كيب ديلغادو) في شمال شرق موزمبيق وعلى حدود تنزانيا كانت قادرة أيضاً على استخدام بقايا التيارات القريبة من الشباب المجاهدين الصومالية ومن خلال النفخ وتأجيج الخلافات بين المسلمين والمسيحيين، بدأت حركات في تلك المنطقة تحت عنوان “ولاية موزمبيق”. حيث تتمثل التحركات الرئيسية لتنظيم داعش في كابو ديلغادو (كيب ديلغادو) في مهاجمة القرى المسيحية وإحراق منازل المسيحيين وقتلهم حيث كان التركيز في الحالات الأخيرة على قطع الرأس وتصوير جسد الضحية مقطوع الرأس على جدول أعمال داعش. يشار إلى أن الهجوم على مدينة “بالما” في نيسان \ أبريل 2022 كان من أهم عمليات تنظيم داعش في منطقة كابو ديلغادو (كيب ديلغادو)، مما أدى إلى إغلاق منشآت الغاز التابعة لشركة توتال في تلك المنطقة.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن أنشطة تنظيم داعش في كابو ديلغادو (كيب ديلغادو) في شمال شرق موزمبيق قبل إعلان خلافة “أبو الحسن الهاشمي” ضمن إطار “ولاية وسط إفريقيا” كانت تعتبر في وعاء واحد مع تحركات داعش في الكونغو، ولكن بعد إعلان خلافة أبو الحسن الهاشمي، شهدنا تغيرات في التقسيمات الإقليمية لداعش، أحدها تشكيل “ولاية موزمبيق” التي من المرجح أن تكون قد اتخذت مكاناً بسبب انتشار أنشطة داعش هناك.
منطقة “بيني” في الكونغو وتعطيل طرق الاتصال
من المناطق الأخرى التي تمكن فيها تنظيم داعش من الحصول على موطئ قدم هي منطقة “بيني” وإلى حد ما منطقة “إيتوري” في شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، بجوار الحدود الأوغندية.
وفي هذه المنطقة، استطاع تنظيم داعش جلب الجماعة الإرهابية the Allied Democratic Forces (تحالف القوات الديمقراطية) معه، وفي نيسان / أبريل 2019، وردت أنباء لأول مرة عن عملية لـ”ولاية وسط إفريقيا” في منطقة بيني في شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
إن شكل عمليات تنظيم داعش في هذه المنطقة يشبه إلى حد بعيد عمليات كابو ديلغادو (كيب ديلغادو)؛ مهاجمة القرى المسيحية وقتل المسيحيين، وخلال الأيام والأشهر الأخيرة قطع رؤوس الضحايا وإرسال صورهم لوسائل إعلام داعش.
ويتمثل أحد مجالات الاهتمام العملياتية الأخرى لداعش في بيني وإيتوري في مهاجمة المركبات التي تحمل المواد الغذائية والسلع المختلفة على طرق النقل بين مناطق مختلفة مثل بيني وكاسيندي وبيني وإيتوري.
تجدر الإشارة إلى أن داعش لم تستخدم العمليات الانتحارية بشكل كبير في كابو ديلغادو (كيب ديلغادو) وبيني وإيتوري وكذلك مختلف القنابل من بينها العبوات بجانب الطرق ومثليها، حيث كانت أغلب عمليات التنظيم بالهجوم المباشر على الأماكن السكنية أو المراكز العسكرية أو نصب كمائن على طرق النقل والمواصلات.
تحريض الأقلية المسلمة في إثيوبيا
من الوثائق التي تعزز فكرة التحريض على أخطاء الهوية، وخاصة تحريض الأقليات المسلمة ضد المسيحيين، كإستراتيجية أيديولوجية لداعش في القارة السمراء، فيلم صدر في محرم 1444 من قبل تنظيم داعش “ولاية الصومال”. حيث صدر هذا الفيلم والذي تبلغ مدته 25 دقيقة لأول مرة باللغة الأمهرية – اللغة الرسمية للشعب الإثيوبي – مع ترجمة عربية. وقد كان هذا الفيلم مختلفاً تماماً عن الأفلام التي سبق نشرها من قبل “ولاية الصومال”، وبدلاً من تناول قضية الحكومة الصومالية أو حركة الشباب المجاهدين كآخر أو عدو، ركز بشكل كامل على المسلمين الإثيوبيين الذين كانوا ينجذبون إلى داعش من حدودهم في إثيوبيا ويصلوا إلى داعش في الصومال. كما وتناول الأشخاص في هذا الفيلم تاريخ الإسلام في إثيوبيا وطلبوا من المسلمين الإثيوبيين كأقلية في بلد ذات أغلبية مسيحية أن يبدأوا الجهاد ضد الحكومة الإثيوبية.
كلمة أخيرة
في النهاية، لا بد من القول إن داعش يلعب على أخطاء الهوية والحدود، حيث لعبها بشكل جيد في مرحلة ذروته، وهذه المرة في القارة السمراء، من أجل إيجاد موطئ قدم له في هذه المنطقة من خلال هذا الطريق ويسبب مشاكل للحكومة والأمم. كما تتأثر أنشطة داعش في منطقة برنو بنيجيريا بهذا الرأي، حيث يمكننا أن نرى أن داعش في نيجيريا يهاجم أحياناً قرى وكنائس مسيحية في منطقة برنو أو مناطق مسيحية أخرى بالقرب من برنو، وهذه هي الطريقة التي ينوون بها اكتساب الشرعية لأنفسهم من خلال إحياء الإزدواجية بين المسلمين والمسيحيين.
تعليق