دراسة تداعيات الصراع بين القوى الشرقية والغربية في آسيا الوسطى
استمرار الاحتجاجات الباردة في كازاخستان، والأزمة الاقتصادية والأمنية في أفغانستان، وقمع الاحتجاجات الشعبية في إقليم بدخشان في طاجيكستان، واحتجاجات منطقة قرقل باغستان المتمتعة بالحكم الذاتي، وارتفاع حجم إرسال المساعدات العسكرية لدول منطقة آسيا الوسطى تظهر اهتمام وتنافس القوى الغربية والشرقية في هذه المنطقة.
خلال العام الماضي، شاركت آسيا الوسطى في أزمات مختلفة، من احتجاجات الشوارع إلى الصراعات العسكرية على مستويات مختلفة. كما أن التحركات وتحركات المسؤولين السياسيين والعسكريين في مختلف دول منطقة آسيا الوسطى، وخاصة الأمريكيين في هذه المنطقة، زادت من أهمية هذا الوضع. ويمكن تعريف أزمات هذه المنطقة على النحو التالي:
1- أزمة أفغانستان وجهود أمريكا للتأثير بشكل أكبر في آسيا الوسطى:
بعد مرور عام على تولي طالبان للسلطة في أفغانستان، وكذلك انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، نشأ فراغ أمني كبير في المنطقة وبدأت معظم دول آسيا الوسطى علاقاتها مع طالبان، وإن كانت محدودة، ولكن في خضم ذلك، دعمت طاجيكستان علناً قوات أحمد مسعود ورفضت التفاعل والتعامل بشكل عام مع حكومة طالبان، حيث أنشأت هذه القضية علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة. بشكل عام، هدف الأمريكيين من العلاقة الودّية مع طاجيكستان باستمرار وجودهم في منطقة آسيا الوسطى حتى يتمكنوا أولاً من اختراق الفناء الخلفي لروسيا والصين وإيران وكذلك الاستمرار في لعب دور في التطورات الأفغانية. حيث فشلت أمريكا في بداية الأمر من خلال رد باكستان السلبي فيما يتعلق ببناء القاعدة والعديد من الأشياء الأخرى ولكن الآن مع سياسة HUMINT (جمع المعلومات باستخدام مصادر ميدانية)، ودعم المنظمات غير الحكومية (NGO)، وكذلك التدريب والمساعدات العسكرية والأمنية، زادت من نفوذها في طاجيكستان. وأحد أسباب زيارة بوتين الأخيرة لطاجيكستان هو القلق من زيادة التحركات الأمريكية. (حيث سافر في أقل من شهر ثلاثة من كبار المسؤولين الأمريكيين، دونالد لو، وتوم ويست، والجنرال مايكل كوريلا، إلى طاجيكستان).
كما وكانت الهجمات الصاروخية من قبل داعش وعناصر مجهولين من الأراضي الأفغانية على طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان من بين الأحداث الأخرى التي حدثت خلال الأشهر القليلة الماضية، ولا يمكن تحليل هذه القضية مادامت أبعادها مخفية.
2- قمع الاحتجاجات الشعبية في بدخشان بطاجيكستان:
كانت منطقة بدخشان الجبلية المتمتعة بالحكم الذاتي في طاجيكستان منذ عام 2012 مصدر احتجاجات شعبية وكذلك القمع الشديد من قبل حكومة إمامعلي رحمان. وقد اشتدّت هذه المسألة منذ تشرين الثاني \ نوفمبر 2021، ووصلت ذروتها في اغتيال “الشهيد محمد باقر محمد باقروف” أحد القادة الشعبيين في هذه المنطقة. كما ولقي زعماء محليون آخرون مصيراً مشابهاً أو تم اعتقالهم.
ووفقاً لآخر المعلومات الميدانية، تسعى حكومة طاجيكستان إلى قمع الجماعات الشعبية في بدخشان من أجل تطبيق السيادة الكاملة والاستبدادية لها في جميع أنحاء طاجيكستان. ومستفيداً من حرب روسيا مع أوكرانيا والرحلات الإقليمية المتزامنة إلى إيران وروسيا وأوزبكستان، تمكن رحمان من إكمال عملياته للتطهير العرقي في بدخشان دون أي ضغوط. وتجدر الإشارة إلى أنه بعد هذا التوتر، قام مناضلوا بدخشان الشبان إما بالفرار أو الاختباء في الجبال، وسادت أجواء مغلقة ومحدودة على مدينة خاروغ وغيرها من مدن إقليم بدخشان.
3- أوزبكستان وأزمة قرقل باغستان:
خلال فترة الاتحاد السوفيتي، تم إلحاق منطقة قرقل باغستان أولاً بكازاخستان، ومن ثم بقيرغيزستان، وبعد ذلك ضمن إطار جمهورية متمتعة بالحكم الذاتي، وفي النهاية تم تسليمها إلى جمهورية أوزبكستان السوفيتية. وفي عام 1990، تمت الموافقة على إعلان سيادة قرقل باغستان، وفي بداية عام 1993، تم توقيع اتفاقية حكومية، وبموجبها أصبحت جمهورية قرقل باغستان جزءاً من أوزبكستان لمدة 20 عاماً. حيث يعتقد القرقلبقيون أن بلادهم ليست منطقة متمتعة بالحكم الذاتي، ولكنها دولة مستقلة داخل أوزبكستان.
وقرقل باغستان هي جمهورية برلمانية، لها علم وطني وشعار رسمي ودستور ونشيد وطني، وتغطي مساحتها 37.1% من الأراضي الأوزبكية. وهذه المنطقة غنية بمواردها واحتياطياتها من النفط والغاز والذهب، ويبلغ عدد سكانها حوالي 2 مليون نسمة، وهم أقلية مقارنة بعدد الأوزبك البالغ 35.3 مليون أوزبكي.
وقد اشتدت النزعات الانفصالية في هذه الجمهورية منذ أن أعلنت حكومة طشقند أنها تستعد للموافقة على تعديل الدستور، والذي بموجبه يتم إلغاء سيادة القراقلبقيون على منطقتهم. وفي الـ5 من تموز \ يوليو، خطط “دافلتمورات تاجيموراتوف”، زعيم القراقلبقيون، لعقد مسيرة سلمية حول هذه القضية، لكن بعد دعوته للمسيرة عبر مكالمة بالفيديو، أصبح الوضع متوتراً. وبعد ذلك، تم نشر المعدات العسكرية وقوات مكافحة الشغب في جميع أنحاء مدينة نوكوس (عاصمة قرقل باغستان) وتم اعتقال تاجيموراتوف. وفي الحقيقة، تراجعت الحكومة الأوزبكية عن تعديل الدستور وهدأ الوضع. وخلال السنوات العشر الماضية، أصبح الوضع في جمهورية قرقل باغستان يتصدر محتوى وسائل الإعلام الأجنبية حول أوزبكستان.
يذكر أن مسؤولي حكومة طشقند لم تمدد اتفاق الحكم الذاتي لقرقل باغستان منذ عام 2003 دون اقتراع وانتخابات من قبل أهالي المنطقة، وقد أدت مناورة وسائل الإعلام الأجنبية إلى بدء هذه الاحتجاجات.
4- احتجاجات كازاخستان:
ما أشعل هذه الاحتجاجات هو ارتفاع أسعار الوقود، ولكن مطالب المحتجين تغيرت الآن وهم يريدون معالجة قضايا أوسع. ويدعي قاسم جومارت توكاييف، رئيس كازاخستان، أن هذه الاحتجاجات هي من عمل “مجموعات إرهابية” تدربت خارج كازاخستان. ومع ذلك، تقول كيث مالينسون، خبيرة في أمور آسيا الوسطى في مركز الأبحاث البريطاني “تشتم هاس”، إن هذه الاحتجاجات هي “علامة على الغضب العميق والمتأجج والاشمئزاز الناجم عن فشل الحكومة في الإرتقاء بالبلاد وإدخال إصلاحات يمكن أن تؤثر على الناس الذين يعيشون في جميع طبقات المجتمع”. وأعلن رئيس كازاخستان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد في أعقاب هذه الاحتجاجات ووعد بالتعامل بصرامة مع المحتجين. وقال في كلمة متلفزة في الساعات الأولى من الاحتجاجات إنه طلب المساعدة من “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” لإرساء الاستقرار في بلاده. وتوكاييف هو ثاني زعيم لكازاخستان بعد إعلان الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991. وقد أدانت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) انتخاب توكاييف في عام 2019 بحجة عدم مراعاة المعايير الديمقراطية في الانتخابات.
حيث كان وجود قوات معاهدة الأمن الجماعي في كازاخستان لقمع الاحتجاجات أحد النقاط البارزة في هذه الاحتجاجات. وكان رئيس طاجيكستان، إمامعلي رحمان، أحد الأشخاص الذين اقترحوا دخول قوات معاهدة الأمن الجماعي لقمع الاحتجاجات.
5- المساعدات العسكرية للقوى العالمية لدول منطقة آسيا الوسطى:
خلال الأشهر القليلة الماضية، تم تقديم مساعدات عسكرية كبيرة لدول المنطقة، وكان معظمها موجهاً إلى طاجيكستان. وإنشاء خط إنتاج مسيرات “أبابيل-2” في طاجيكستان بحضور “اللواء باقري” قائد الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، وزيارة رئيس القيادة المركزية للولايات المتحدة (CENTCOM) إلى طاجيكستان والإعلان عن تقديم 60 مليون دولار كمساعدات إلى جمهورية طاجيكستان من أجل أمن طاجيكستان (توفير مسيرات بوما، وبناء نقطة حدودية في تشلداور في مدينة توس بطاجيكستان، وتدريب الحراس وحرب الجبال للجيش الطاجيكي بالإضافة إلى توفير معدات خاصة بالحدود لطاجيكستان)، وتجهيز الجيش الطاجيكي بالأسلحة الصينية، كما وكان وعد روسيا بدعم وتجهيز حرس الحدود الطاجيكيين، وبيع طائرات مسيرة تركية من طراز بيرقدار إلى قيرغيزستان، جزءاً من هذه الحالات.
وبناءً على هذه التطورات، يمكن الاستنتاج أن آسيا الوسطى، باعتبارها مكان للقاء وتأثير القوى العالمية، كانت دائماً موضع اهتمام وعرضة للتطورات المهمة في المستقبل. وكما أشار ألكسندر لوكاشينكو، رئيس بيلاروسيا، في حفل عيد استقلال بيلاروسيا، “إن آسيا الوسطى مثل أوروبا الشرقية، تقع بين جبهتين وهي مكان تتصادم فيه أقطاب العالم.” ولكن القضية الرئيسية اليوم ليست أوكرانيا، أو بيلاروسيا، أو تصدير الحبوب والقمح، إلخ. بل القضية الرئيسية هي ظهور لاعبين أقوياء جدد على الساحة الدولية الذين تحدوا الهيكل أحادي القطب في العالم. والاحتجاجات والثورات الملونة، والتأثير الأكبر لأمريكا والصين، وما يقابلها من تراجع في التأثير الروسي في آسيا الوسطى، والدور المحتمل لإيران، وما إلى ذلك، هي من بين الأشياء التي سنسمع عنها المزيد في المستقبل.
تعليق